فصل: ذكر الفتنة بين أهل بغداد ثانية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة ثمانين وأربعمائة:

.ذكر زفاف ابنة السلطان إلى الخليفة:

في المحرم نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي، وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة وثلاث عماريات، وعلى أربع وسبعين بغلاً مجللة بأنواع الديباج الملكي، وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من فضة لا يقدر ما فيها من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً من الخيل الرائقة، عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجوهر، ومهد عظيم كثير الذهب.
وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهرائين، والأمير برسق، وغيرهما، ونثر أهل نهر معلى عليهم الدنانير والثياب، وكان السلطان قد خرج عن بغداد متصيداً، ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون، زوجة السلطان، وبين يديه نحو ثلاثمائة موكبية، ومثلها مشاعل، ولم يبق في الحريم دكان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك.
وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها حسناً، وقال الوزير لتركان خاتون: سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره. فأجابت بالسمع والطاعة، وحضر نظام الملك فمن دونه من أعيان دولة السلطان، وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير، وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها، وبين أيديهن الشمع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان.
ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان، بعد الجميع، في محفة مجللة، عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة، وسارت إلى دار الخلافة، وكانت ليلة مشهودة لم ير ببغداد مثلها.
فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله حكي أن فيه أربعين ألف منا من السكر، وخلع عليهم كلهم، وعلى كل من له ذكر في العسكر، وأرسل الخلع إلى الخاتون زوجة السلطان، وإلى جميع الخواتين، وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ولد للسلطان ابن من تركان خاتون، وسماه محموداً، وهو الذي خطب له بالمملكة بعد.
وفيها سلم السلطان ملكشاه مدينة حلب والقلعة إلى مملوكة آقسنقر، فوليها، وأظهر فيها العدل وحسن السيرة، وكان زوج دادو السلطان ملكشاه، وهي التي تحضنه وتربيه، وماتت بحلب سنة أربع وثمانين.
وفيها استبق ساعيان أحدهما للسلطان، فضلي، والآخر للأمير قماج، مرعوشي، فسبق ساعي السلطان، وقد تقدم ذكر الفضلي والمرعوشي أيام معز الدولة بن بويه.
وفيها جعل السلطان ولي عهده ولده أبا شجاع أحمد، ولقبه ملك الملوك، عضد الدولة، وتاج الملة، عدة أمير المؤمنين، وأرسل إلى الخليفة بعد مسيره من بغداد، ليخطب له ببغداد بذلك، فخطب له في شعبان، ونثر الذهب على الخطباء.
وفيها، في شعبان، انحدر سعد الدولة كوهرائين إلى واسط لمحاربة مهذب الدولة بن أبي الجبر، صاحب البطائح، ولما فارق بغداد كثرت فيها الفتن.
وفيها، في ذي القعدة، ولد للخليفة من ابنة السلطان ولد سماه جعفراً، وكناه أبا الفضل، وزين البلد لأجل ذلك.
وفيها استولى العميد كمال الملك أبو الفتح الدهستاني، عميد العراق، على مدينة هيت، أخذها صلحاً ومضى إليها، وعاد عنها في ذي القعدة.
وفيها وقعت فتنة بين أهل الكرخ وغيرها من المحال، قتل فيها كثير من الناس.
وفيها كسفت الشمس كسوفاً كلياً.
وفيها توفي الأمير أبو منصور قتلغ أمير الحاج، وحج أميراً اثنتي عشرة سنة، وكانت له في العرب عدة وقعات، وكانوا يخافونه، ولما مات قال نظام الملك: مات اليوم ألف رجل، وولي إمارة الحاج نجم الدولة خمارتكين.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن سعد أبو القاسم الساوي، سمع الحديث الكثير من أبي سعد الصيرفي وغيره، وروى عنه الناس، وكان ثقة، وطاهر بن الحسين أبو الوفا البندنيجي، الهمذاني، كان شاعراً، أديباً، وكان يمدح لا لعرض الدنيا، ومدح نظام الملك بقصيدتين كل واحدة منهما تزيد على أربعين بيتاً، إحداهما ليس فيها نقطة، والأخرى جميع حروفها منقوطة.
وفيها توفيت فاطمة بنت علي المؤدب، المعروفة ببنت الأقرع، الكاتبة، كانت من أحسن الناس خطاً على طريقة ابن البواب، وسمعت الحديث وأسمعته.
وفيها، في ذي القعدة، توفي غرس النعمة أبو الحسن محمد بن الصابي، صاحب التاريخ، وظهر له مال كثير، وكان له معروف وصدقة. ثم دخلت:

.سنة إحدى وثمانين وأربعمائة:

.ذكر الفتنة ببغداد:

في هذه السنة، في صفر، شرع أهل باب البصرة في بناء القنطرة الجديدة، ونقلوا الآجر في أطباق الذهب والفضة وبين أيديهم الدبادب، واجتمع إليهم أهل المحال، وكثر عندهم أهلباب الأزج في خلق لا يحصى.
واتفق أن كوهرائين سار في سميرية، وأصحابه يسيرون على شاطيء دجلة بسيره، فوقف أهل باب الأزج على امرأة كانت تسقي الناس من مزملة لها على دجلة، فحملوا عليها، على عادة لهم، وجعلوا يكسرون الجرار، ويقولون: الماء للسبيل! فلما رأت سعد الدولة كوهرائين استغاثت به، فأمر بإبعادهم عنها، فضربهم الأتراك بالمقارع، فسل العامة سيوفهم وضربوا وجه فرس حاجبه سليمان، وهو أخص أصحابه، فسقط عن الفرس، فحمل كوهرائين الحنق على أن خرج من السميرية إليهم راجلاً، فحمل أحدهم عليه، فطعنه بأسفل رمحه، فألقاه في الماء والطين، فحمل أصحابه على العامة، فقاتلوهم، وحرصوا على الظفر بالذي طعنه، فلم يصلوا إليه، وأخذ ثمانية نفرر، فقتل أحدهم، وقطع أعصاب ثلاثة نفر، وأرسل قباءه إلى الديوان وفيه أثر الطعنة والطين يستنفر على أهل باب الأزج. ثم إن أهل الكرخ عقدوا لأنفسهم طاقاً آخر على باب طاق الحراني، وفعلوا كفعل أهل البصرة.

.ذكر إخراج الأتراك من حريم الخلافة:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، أمر الخليفة بإخراج الأتراك الذين مع الخاتون زوجته ابنة السلطان من حريم دار الخلافة.
وسبب ذلك أن تركياً منهم اشترى من طواف الفاكهة، فتماكسا، فشتم الطواف التركي، فأخذ التركي صنجة من الميزان وضرب بها رأس الطواف فشجه، فاجتمعت العامة، وكاد يكون بينهم وبين الأتراك شر، واستغاثوا، وشنعوا، فأمر الخليفة بإخراج الأتراك، فأخرجوا عن آخرهم، في ساعة واحدة، على أقبح صورة، وقت العشاء الآخرة.

.ذكر ملك الروم مدينة زويلة وعودهم عنها:

في هذه السنة فتح الروم مدينة زويلة من إفريقية، وهي بقرب المهدية.
وسبب ذلك أن الأمير تميم بن المعز بن باديس، صاحبها، أكثر غزو بلادهم في البحر، فخربها، وشتت أهلها، فاجتمعوا من كل جهة، واتفقوا على إنشاء الشواني لغزو المهدية، ودخل معهم البيشانيون، والجنوبيون، وهما من الفرنج، فأقاموا يعمرون الأسطول أربع سنين، واجتمعوا بجزيرة قوصرة في أربع مائة قطعة، فكتب أهل قوصرة كتاباً على جناح طائر يذكرون وصولهم وعددهم وحكمهم على الجزيرة، فأراد تميم أن يسير عثمان بن سعيد المعروف بالمهر، مقدم الأسطول الذي له، ليمنعهم من النزول، فمنعه من ذلك بعض قواده، واسمه عبد الله بن منكوت، لعداوة بينه وبين المهر، فجاءت الروم، وأرسلوا، وطلعوا إلى البر، ونهبوا، وخربوا، وأحرقوا، ودخلوا زويلة ونهبوها، وكانت عساكر تميم غائبة في قتال الخارجين عن طاعته.
ثم صالح تميم الروم على ثلاثين ألف دينار، ورد جميع ما حووه من السبي، وكان تميم يبذل المال الكثير في الغرض الحقير، فكيف في الغرض الكبير، حكي عنه أنه بذل للعرب، لما استولوا على حصن له يسمى قناطة ليس بالعظيم، اثني عشر ألف دينار حتى هدمه، فقيل له: هذا سرف في المال، فقال: هو شرف في الحال.

.ذكر وفاة الناصر بن علناس وولاية ولده المنصور:

في هذه السنة مات الناصر بن علناس بن حماد، وولي بعده ابنه المنصور، فاقتفى آثار أبيه في الحزم والعزم والرئاسة، ووصله كتب الملوك ورسلهم بالتعزية بأبيه والتهنئة بالملك، منهم: يوسف بن تاشفين، وتميم بن المعز، وغيرهما.

.ذكر وفاة إبراهيم ملك غزنة وملك ابنه مسعود:

في هذه السنة توفي الملك المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، وكان عادلاً، كريماً، مجاهداً، وقد ذكرنا من فتوحه ما وصل إلينا، وكان عاقلاً، ذا رأي متين، فمن آرائه أن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي جمع عساكره وسار يريد غزنة، ونزل باسفرار، فكتب إبراهيم بن مسعود كتاباً إلى جماعة من أعيان أمراء ملكشاه يشكرهم، ويعتد لهم بما فعلوا من تحسين قصد ملكشاه بلاده ليتم لنا ما استقر بيننا من الظفر به، وتخليصهم من يده، ويعدهم الإحسان على ذلك، وأمر القاصد بالكتب أن يتعرض لملكشاه في الصيد، ففعل ذلك، فأخذ، وأحضر عند السلطان، فسأله عن حاله، فأنكره، فأمر السلطان بجلده، فجلد، فدفع الكتب إليه بعد جهد ومشقة، فلما وقف ملكشاه عليها تحيل من أمرائه وعاد، ولم يقل لأحد من أمرائه في هذا الأمر شيئاً خوفاً أن يستوحشوا منه.
وكان يكتب بخطه، كل سنة، مصحفاً، ويبعثه مع الصدقات إلى مكة، وكان يقول: لو كنت موضع أبي مسعود، بعد وفاة جدي محمود، لما انفصمت عرى مملكتنا، ولكني الآن عاجز عن أن أسترد ما أخذوه، واستولى عليه ملوك قد اتسعت مملكتهم، وعظمت عساكرهم.
ولما توفي ملك بعده ابنه مسعود، ولقبه جلال الدين، وكان قد زوجه أبوه بابنة السلطان ملكشاه، وأخرج نظام الملك في هذا الإملاك والزفاف مائة دينار.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة حج الوزير أبو شجاع، وزير الخليفة، واستناب ابنه ربيب الدولة أبا منصور، ونقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي.
وفيها أسقط السلطان ما كان يؤخذ من الحجاج من الخفارة.
وفيها جمع آقسنقر، صاحب حلب، عسكره وسار إلى قلعة شيزر فحصرها، وصاحبها ابن منقذ، وضيق عليها، ونهب ربضها، ثم صالحه صاحبها وعاد إلى حلب.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن أبي حاتم عبد الصمد بن أبي الفضل الغورجي، الهروي، والقاضي محمود بن محمد بن القاسم أبو عامر الأزدي، المهلبي، راوياً جامع الترمذي عن أبي محمد الجراحي، رواه عنهما أبو الفتح الكروخي.
وتوفي عبد الله بن محمد بن علي بن محمد أبو إسماعيل، الأنصاري، الهروي، شيخ الإسلام، ومولده سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وكان شديد التعصب في المذاهب، ومحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الباقرحي، ومولده في شعبان، وهو من أهل الحديث والرواية.
وفي المحرم توفيت ابنة الغالب بالله بن القادر ودفنت عند قبر أحمد، وكانت ترجع إلى دين، ومعروف كثير، لم يبلغ أحد في فعل الخير ما بلغت.
وفي شعبان توفي عبد العزيز الصحراوي الزاهد.
وفيها توفي الملك أحمد ابن السلطان ملكشاه بمرو، وكان ولي عهد أبيه في السلطنة، وكان عمره إحدى عشرة سنة، وجلس الناس ببغداد للعزاء سبعة أيام في دار الخلافة، ولم يركب أحد فرساً، وخرج النساء ينحن في الأسواق، واجتمع الخلق الكثير في الكرخ للتفرج والمناحات، وسود أهل الكرخ أبواب عقودهم إظهاراً للحزن عليه. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة:

.ذكر الفتنة ببغداد بين العامة:

في هذه السنة، في صفر، كبس أهل باب البصرة الكرخ، فقتلوا رجلاً وجرحوا آخر، فأغلق أهل الكرخ الأسواق، ورفعوا المصاحف، وحملوا ثياب الرجلين وهي بالدم، ومضوا إلى دار العميد كمال الملك أبي الفتح الدهستاني مستغيثين، فأرسل إلى النقيب طراد بن محمد يطلب منه إحضار القاتلين، فقصد طراد دار الأمير بوزان بقصر ابن المأمون، فطالبه بوزان بهم، ووكل به، فأرسل الخليفة إلى بوزان يعرفه حال النقيب طراد، ومحله، ومنزلته، فخلى سبيله واعتذر إليه، فسكن العميد كمال الملك الفتنة، وكف الناس بعضهم عن بعض، ثم سار إلى السلطان، فعاد الناس إلى ما كانوا فيه من الفتنة، ولم ينقض يوم إلا عن قتلى وجرحى.

.ذكر ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر:

في هذه السنة ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر.
وسبب ذلك أن سمرقند كان قد ملكها أحمد خان بن خضر خان، أخو شمس الملك، الذي كان قبله، وهو ابن أخي تركان خاتون، زوجة السلطان ملكشاه، وكان صبياً ظالماً، قبيح السيرة، يكثر مصادرة الرعية، فنفروا منه، وكتبوا إلى السلطان سراً يستغيثون به، ويسألونه القدوم عليهم ليملك بلادهم، وحضر الفقيه أبو طاهر بن علك الشافعي عند السلطان شاكياً، وكان يخاف من أحمد خان لكثرة ماله، فأظهر السفر للتجارة والحج، فاجتمع بالسلطان، وشكا إليه، وأطمعه في البلاد. فتحركت دواعي السلطان إلى ملكها، فسار من أصبهان.
وكان قد وصل إليه، وهو فيها، رسول ملك الروم، ومعه الخراج المقرر عليه، فأخذه نظام الملك معهم إلى ما وراء النهر، وحضر فتح البلاد، فلما وصل إلى كاشغر أذن له نظام الملك في العود إلى بلاده، وقال: أحب أن يذكر عنا في التواريخ أن ملك الروم حمل الجزية وأوصلها إلى باب كاشغر لينهي إلى صاحبه سعة ملك السلطان ليعظم خوفه منه، ولا يحدث نفسه بخلاف الطاعة. وهذا يدل على همة عالية تعلو على العيوق.
ولما سار السلطان من أصبهان إلى خراسان جمع العساكر من البلاد جميعها، فعبر النهر بجيوش لا يحصرها ديوان، ولا تدخل تحت الإحصاء، فلما قطع النهر قصد بخارى، وأخذ ما على طريقه، ثم سار إليها وملكها وما جاورها من البلاد، وقصد سمرقند ونازلها، وكانت الملطفات قد قدمها إلى أهل البلد يعدهم النصر، والخلاص مما هم فيه من الظلم، وحصر البلد، وضيق عليه، وأعانه أهل البلد بالإقامات، وفرق أحمد خان، صاحب سمرقند، أبراج السور على الأمراء ومن يثق به من أهل البلد، وسلم برجاً يقال به برج العيار إلى رجل علوي كان مختصاً به، فنصح في القتال.
فاتفق أن ولداً لهذا العلوي أخذ أسيراً ببخارى، فهدد الأب بقتله، فتراخى عن القتال، فسهل الأمر على السلطان ملكشاه، ورمى من السور عدة ثلم بالمنجنيقات، وأخذ ذلك البرج، فلما صعد عسكر السلطان إلى السور هرب أحمد خان، واختفى في بيوت بعض العامة فغمز عليه وأخذ وحمل إلى السلطان وفي رقبته حبل، فأكرمه السلطان، وأطلقه وأرسله إلى أصبهان، ومعه من يحفظه، ورتب بسمرقند الأمير العميد أبا طاهر عميد خوارزم.
وسار السلطان قاصداً كاشغر، فبلغ إلى يوزكند، وهو بلد يجري على بابه نهر، وأرسل منها رسلاً إلى ملك كاشغر يأمره بإقامة الخطبة، وضرب السكة باسمه ويتوعده إن خالف بالمسير إليه. ففعل ذلك وأطاع، وحضر عند السلطان، فأكرمه وعظمه، وتابع الإنعام عليه، وأعاده إلى بلده.
ورجع السلطان إلى خراسان، فلما أبعد عن سمرقند لم يتفق أهلها وعسكرها المعروفون بالجكلية مع العميد أبي طاهر، نائب السلطان عندهم، حتى كادوا يثبون عليه، فاحتال حتى خرج من عندهم، ومضى إلى خوارزم.

.ذكر عصيان سمرقند:

كان مقدم العسكر المعروف بالجكلية، واسمه عين الدولة، قد خاف السلطان لهذا الحادث، فكاتب يعقوب تكين أخا ملك كاشغر، ومملكته تعرف بآب نباشي، وبيده قلعتها، واستحضره، فحضر عنده بسمرقند، واتفقا، ثم إن يعقوب علم أن أمره لا يستقيم معه، فوضع عليه الرعية الذين كان أساء إليهم، حتى ادعوا عليه دماء قوم كان قتلهم، وأخذ الفتاوى عليه فقتله، واتصلت الأخبار بالسلطان ملكشاه بذلك، فعاد إلى سمرقند.

.ذكر فتح سمرقند الفتح الثاني:

لما اتصلت الأخبار بعصيان سمرقند بالسلطان ملكشاه، وقتل عين الدولة، مقدم الجكلية، عاد إلى سمرقند، فلما وصل إلى بخارى هرب يعقوب المستولي على سمرقند، ومضى إلى فرغانة، ولحق بولايته.
ووصل جماعة من عسكره إلى السلطان مستأمنين، فلقوه بقرية تعرف بالطواويس، ولما وصل السلطان إلى سمرقند ملكها، ورتب بها الأمير أبر، وسار في أثر يعقوب حتى نزل بيوزكند، وأرسل العساكر إلى سائر الأكناف في طلبه.
وأرسل السلطان إلى ملك كاشغر، وهو أخو يعقوب، ليجد في أمره، ويرسله إليه، فاتفق أن عسكر يعقوب شغبوا عليه، ونهبوا خزائنه، واضطروه إلى أن هرب على فرسه، ودخل إلى أخيه بكاشغر مستجيراً به. فسمع السلطان بذلك، فأرسل إلى ملك كاشغر يتوعده، إن لم يرسله إليه، أن يقصد بلاده، ويصير هو العدو، فخاف أن يمنع السلطان، وأنف أن يسلم أخاه بعد أن استجار به وإن كانت بينهما عداوة قديمة، ومنافسة في الملك عظيمة، لما يلزمه فيه العار، فأداه اجتهاده إلى أن قبض على أخيه يعقوب، وأظهر أنه كان في طلبه، فظفر به، وسيره مع ولده، وجماعة من أصحابه، وكلهم بيعقوب، وأرسل معهم هدايا كثيرة للسلطان، وأمر ولده أنه إذا وصل إلى قلعة بقرب السلطان أن يسمل يعقوب ويتركه، فإن رضي السلطان بذلك، وإلا سلمه إليه.
فلما وصلوا إلى القلعة عزم ابن ملك كاشغر أن يسمل عمه، وينفذ فيه ما أمره به أبوه، فتقدم بكتفه وإلقائه على الأرض، ففعلوا به ذلك، فبينما هم على تلك الحال، وقد أحموا الميل ليسلموه، إذ سمعوا ضجة عظيمة، فتركوه، وتشاوروا بينهم، وظهر عليهم انكسار، ثم أرادوا بعد ذلك سمله، ومنع منه بعض، فقال لهم يعقوب: أخبروني عن حالكم، وما يفوتكم الذي تريدونه مني، وإذا فعلتم بي شيئاً ربما ندمتم عليه.
فقيل له: إن طغرل بن ينال أسرى من ثمانين فرسخاً في عشرات ألوف من العساكر، وكبس أخاك بكاشغر، فأخذه أسيراً، ونهب عسكره، وعاد إلى بلاده، فقال لهم: هذا الذي تريدون تفعلونه بي ليس مما تتقربون به إلى الله تعالى وإنما تفعلونه اتباعاً لأمر أخي، وقد زال أمره، ووعدهم الإحسان فأطلقوه.
فلما رأى السلطان ذلك ورأى طمع طغرل بن ينال، ومسيره إلى كاشغر، وقبض صاحبها، وملكه لها مع قربه منه، خاف أن ينحل بعض أمره وتزول هيبته، وعلم أنه متى قصد طغرل سار من بين يديه، فإن عاد عنه رجع إلى بلاده، وكذلك يعقوب أخو صاحب كاشغر، وأنه لا يمكنه المقام لسعة البلاد وراءه وخوف الموت بها، فوضع تاج الملك على أن يسعى في إصلاح أمر يعقوب معه، ففعل ما أمره به السلطان، فاتفق هو ويعقوب، وعاد إلى خراسان، وجعل يعقوب مقابل طغرل يمنعه من القوة، وملك البلاد، وكل منهما يقوم في وجه الآخر.

.ذكر عود ابنة السلطان إلى أبيها:

وفي هذه السنة أرسل السلطان إلى الخليفة يطلب ابنته طلباً لا بد منه.
وسبب ذلك أنها أرسلت تشكو من الخليفة، وتذكر أنه كثير الاطراح لها، والإعراض عنها، فأذن لها في المسير، فسارت في ربيع الأول، وسار معها ابنها من الخليفة أبو الفضل جعفر بن المقتدي بأمر الله، ومعهما سائر أرباب الدولة، ومشى، مع محفتها، سعد الدولة كوهرائين، وخدم دار الخلافة الأكابر، وخرج الوزير وشيعهم إلى النهروان وعاد.
وسارت الخاتون إلى أصبهان، فأقامت بها إلى ذي القعدة، وتوفيت، وجلس الوزير ببغداد للعزاء سبعة أيام، وأكثر الشعراء مراثيها ببغداد، وبعسكر السلطان.

.ذكر فتح عسكر مصر عكا وغيرها من الشام:

في هذه السنة خرجت عساكر مصر إلى الشام في جماعة من المقدمين، فحصروا مدينة صور، وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل، وامتنع عليهم، ثم توفي، ووليها أولاده، فحصرهم العسكر المصري فلم يكن لهم من القوة ما يمتنعون بها، فسلموها إليهم.
ثم سار العسكر عنها إلى مدينة صيدا، ففعلوا بها كذلك.
ثم ساروا إلى مدينة عكا، فحصروها، وضيقوا على أهلها، فافتتحوها.
وقصدوا مدينة جبيل، فملكوها أيضاً، وأصلحوا أحوال هذه البلاد، وقرروا قواعدها، وساروا عنها إلى مصر عائدين، واستعمل أمير الجيوش على هذه البلاد الأمراء والعمال.

.ذكر الفتنة بين أهل بغداد ثانية:

وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، كثرت الفتن ببغداد بين أهل الكرخ وغيرها من المحال، وقتل بينهم عدد كثير، واستولى أهل المحال على قطعة كبيرة من نهر الدجاج، فنهبوها، وأحرقوها، فنزل شحنة بغداد، وهو خمارتكين النائب عن كوهرائين، على دجلة في خيله ورجله، ليكف الناس عن الفتنة، فلم ينتهوا، وكان أهل الكرخ يجرون عليه وعلى أصحابه الجرايات والإقامات.
وفي بعض الأيام وصل أهل باب البصرة إلى سويقة غالب، فخرج من أهل الكرخ من لم تجر عادته بالقتال، فقاتلوهم حتى كشفوهم. فركب خدم الخليفة، والحجاب، والنقباء، وغيرهم من أعيان الحنابلة، كابن عقيل، والكلوذاني، وغيرهما، إلى الشحنة، وساروا معه إلى أهل الكرخ، فقرأ عليهم مثالاً من الخليفة يأمرهم بالكف، ومعاودة السكون، وحضور الجماعة والجمعة، والتدين بمذهب أهل السنة، فأجابوا إلى الطاعة.
فبينما هم كذلك أتاهم الصارخ من نهر الدجاج بأن السنة قد قصدوهم، والقتال عندهم، فمضوا مع الشحنة، ومنعوا من الفتنة، وسكن الناس وكتب أهل الكرخ على أبواب مساجدهم: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن عند هذا اليوم ثار أهل الكرخ، وقصدوا شارع ابن أبي عوف ونهبوه، وفي جملة ما نهبوا دار أبي الفضل بن خيرون المعدل، فقصد الديوان مستنفراً، ومعه الناس، ورفع العامة الصلبان وهجموا على الوزير في حجرته، وأكثروا من الكلام الشنيع، وقتل ذلك اليوم رجل هاشمي من أهل باب الأزج بسهم أصابه، فثار العامة هناك بعلوي كان مقيماً بينهم، فقتلوه وحرقوه، وجرى من النهب، والقتل، والفساد أمور عظيمة، فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة بن مزيد، فأرسل عسكراً إلى بغداد، فطلبوا المفسدين والعيارين، فهربوا منهم، فهدمت دورهم، وقتل منهم ونفي وسكنت الفتنة، وأمن الناس.